الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومثله اشْتروُوا إذا وقفت مستذكرًا للضلالة، فتضم الواو من اشتروا على ما كانت عليه من الضم لالتقاء الساكنين، ثم تشبع الضمة لإطالة صوت وِقفة الاستذكار، فتُحدِث هناك واوًا تنشأ عن ضمة واو الضمير، ثم تبتدئ فتقول: ألضلالة، فتقطع همزة الوصل لابتدائك بها، فهذا أمثل ما يقال في هذا.ولا يحسن أن تقول: إنه قطع همزة الوصل ارتجالًا هكذا؛ لأن هذا إنما يسوغ لضرورة الشعر. فأما في القرآن فمعاذ الله وحاشا أبي عمرو، ولاسيما وهذه الهمزة هنا إنما هي في فعل، وقلما جاء في الشعر قطع همزة الوصل في الفعل؛ وإنما يجيء الشيء النزر من ذلك في الاسم، نحو قول جميل:
وقول الآخر: أي: لاق منيته، فحذف المفعول، وإنما قل قطع همزة الوصل هذه في الفعل، وجاء ما جاء من ذلك في الاسم؛ حيث كان الفعل مظنة من همزة الوصل، وإنما تدخل من الأسماء ما ضارع الفعل.وباب همزات الأسماء أن تكون قطعًا، فلما غلب القطع عليها جرت الألسن على العادة في ذلك، واستجازوا قطع همزة الوصل لما ذكرنا.وليست حال همزة الوصل في الفعل كذلك؛ لأنها معتادة هناك، فازداد قطعها من الفعل ضِيقَ عُذْرٍ لما ذكرنا.فأما {حتى إذا ادَّاركوا} بإثبات ألف إذا مع سكون الدال من {ادَّاركوا} فإنما ذلك لأنه أجرى المنفصل مجرى المتصل، فشبهه بشابَّة ودابَّة ونحو قولهم: لاهآ الله ذا بإثبات الألف في ها، وترك حذفها لالتقاء الساكنين كما حذفت في قول من قال: لاها الله ذا.وقال لي أبو علي: فيها أربع لغات: لاهَا لله ذا بحذف الألف، ولاهآ الله ذا بمدها تشبيهًا بالمتصل على ما مضى في دابة. ولاهآ ألله بإثبات ألف ها وهمزة الله بوزن لاها عَلَّاة ذا.والرابعة: لاهَأللهِ ذا في وزن هَعَلّله ذا، تحرك ألف ها لالتقاء الساكنين وتقلبها همزة، كما قرأ أيوب السختياني: {ولا الضَّأَلِّين}، بوزن الضَعَلِّين. وعليه ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأَبَّة ومأَدَّة.ومثله أيضًا قراءة أبي عمرو، ورويناها عن قطرب عنه: {قالوا اطَّيْرنا}، وحُكي عن بعضهم: هذان عبدآ اللهِ.وحُكي عنهم: له ثلثآ المال وهو أشد؛ لأنه غير مدغم.وقال بعضهم: يآ الله، وبعضهم: يا ألله، وبعضهم: يألله، وبعضهم: ياْلله، فحذف ألف يا لالتقاء الساكنين.ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وأبي العلاء بن الشخير ورويت عن أبي رجاء: {حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ}، وقرأ: {الْجُمَل}- بضم الجيم وفتحة الميم مخففة- ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف وعبد الكريم وحنظلة ومجاهد بخلاف.وقرأ: {الْجُمْل}- بضم الجيم وسكون الميم- ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف عنهما.وقرأ: {الْجُمُل}- بضمتين والميم خفيفة- ابن عباس.وقرأ أبو السمال: {الْجَمْل} مفتوحة الجيم ساكنة الميم.قال أبو الفتح: أما الْجُمَّل بالتثقيل والْجُمُل بالتخفيف فكلاهما الحبل الغليظ من القنب، ويقال: حبل السفينة، ويقال: الحبال المجموعة، وكله قريب بعضه من بعض.وأما الْجُمْل فقد يجوز في القياس أن يكون جمع جَمَل كأَسَد وأُسْد ووَثَن ووُثْن، وكذلك المضموم الميم أيضًا كأُسُد.وأما الْجَمْل فبعيد أن يكون مخففًا من المفتوح لخفة الفتحة، وإن كان قد جاء عنهم قوله: ومن ذلك قراءة عكرمة: {لا يَنَالُهُم اللَّهُ بِرَحْمَةٍ دَخَلُوا الْجَنَّةَ}.وقرأ طلحة بن مُصرِّف: {بِرَحْمَةٍ أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ} أي: فُعِلَ ذلك بهم.قال أبو الفتح: الذي في هاتين القراءتين خطابهم بقوله سبحانه: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وطريق ذلك أن قوله: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} الوقف هنا، ثم يُستأنف فيقال: {دَخَلُوا الجنة}، أو {أُدْخِلُوا الجنة} أي: قد دخَلوا أو أُدخلوا، وإضمار قد موجود في الكلام نحو قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي: قد حصرت صدورهم؛ أي: فقد دخلوا الجنة، فقال لهم: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}، وقد اتسع عنهم حذف القول كقوله تعالى: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: يقولون لهم: سلام عليكم، وقال الشاعر: أي قالا: إنا رأينا، ولذلك كَسَر. هكذا مذهب أصحابنا في نحو هذا من إضمار القول.وقد يجوز أن يكون قوله: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُون} قولًا مرتجلًا لا على تقدير إضمار القول؛ لكن استأنف الله عز وجل خطابهم، فقال: {أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ}، كما استأنفه تعالى على القراءة المشهورة وهي: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}.ومثله من ترك كلام إلى كلام آخَرَ بيتُ الكتاب، وهو قوله: ألا تراه حمله على أنه نادى البيت، ثم ترك خطابه وأقبل على صاحبه، فقال: بالعلياء بيتُ، ثم رجع إلى خطاب البيت فقال له: وسألني قديمًا بعض مَن كان يأخذ عني، فقال: لِمَ لا يكون بيت الثاني تكريرًا على الأول كقولك: يا زيد زيد، ويكون بالعلياء في موضع الحال من البيت الأول، كما كان قول النابغة: قوله: بالعلياء في موضع الحال؛ أي: يا دار مية عالية مرتفعة، فيكون كقوله: هذا معنى ما أورده بعد أن سددت السؤال ومكنته، فقلت: لا يجوز ذلك هنا؛ وذلك أنه لو كان البيت الثاني تكريرًا على الأول لقال: لولا حُب أهلك ما أتيت، فيكون كقولك: يا زيد، لولا مكانك ما فعلت كذا، وأنت لا تقول: يا زيد، ولولا مكانك لم أفعل كذا، فإذا بَطَلَ هذا ثبت ما قاله صاحب الكتاب من كونه كلامًا بعد كلام، وجملة تتلو جملة.وهذا واضح، فقوله على هذا: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} جملة لا موضع لها من الإعراب من حيث كانت مرتجلة، وهي في القول الأول منصوب الموضع على الحال؛ أي: دخلوا الجنة أو أُدخلوا الجنة، مقولًا لهم هذا الكلام الذي هو: لا خوف عليكم، وحُذِفَ القول وهو منصوب على الحال، وأقيم مقامه قوله: {لا خوف عليكم} فانتصب انتصابه، كما أن قولهم: كلَّمته فاه إلى فِيّ منصوب على الحال؛ لأنه ناب عن: جاعلًا فاه إلى فِيّ، أو لأنه وقع موقع مشافهة التي هي نائبة عن مشافِهًا له.ومن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق: {أو نُرَدَّ} بنصب الدال.قال أبو الفتح: الذي قبله مما هو متعلق به قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا}، ثم قال: {أَوْ نُرَدَّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فعطف {نرد} على {يشفعوا}، وهو منصوب لأنه جواب الاستفهام وفيه معنى التمني؛ وذلك أنهم قد علموا أنه لا شفيع لهم، وإنما يتمنون أن يكون لهم هناك شفعاء، فيردوا بشفاعتهم، فيعملوا ما كانوا لا يعملونه من الطاعة؛ فيصير به المعنى إلى أنه كأنهم قالوا: إن نُرزق شفعاء يشفعوا لنا أو نُرْدَد، وتقديره مع رفع نرد على قراءة الجماعة: أن نُرزق شفعاء يشفعوا لنا، وإن نردد نعمل غير الذي كنا نعمل. وذلك أنهم مع نصب {نرد} تمنوا الشفعاء وقطعوا بالشفاعة، وتمنوا الرد أيضًا وضَمِنُوا عمل ما لم يكونوا يعملونه؛ أي: إن نُردد نعمل غير الذي كنا نعمل كأنه قال: أو هل نرد فنعمل.فأما قوله سبحانه: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ}، فقال فيه أبو الحسن: إنهم إنما تمنوا الرد، وضمنوا ألا يُكَذِّبُوا، وهذا يوجب النصب لأنه جواب للتمني، قال: إلا أنه عُطِفَ في اللفظ والمراد به الجواب، وشَبَّهه بقول الله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ} بالجر، قال: فهي في اللفظ معطوفة على المسح، وفي المعنى معطوفة على الغسل، قال ونحو منه: هذا حجر ضَبٍّ خربٍ. وقرأها الحسن: {أو تُريدُ فَنَعْملُ} فهو على هذه القراءة على أنهم تمنوا إرادته عز وجل إيمانَهم وعملَهم.فإن قيل: وكيف يصح تمنيهم إرادتَه منهم الإيمانَ، ومعلوم أنه هو المراد منهم لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وغيره من الآي؟قيل: يكون معناه إرادة اقتسار لهم على الإيمان لا رَدٍّ منه تعالى الأمر إليهم فيه، فيكون هذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} أي: لو شاء مشيئة إلجاء أو إكراه لا عَرْض وترغيب.وساغ في هذه القراءة تمنيهم العمل؛ إذ كان بلطف الله- عز وجل- لهم فيه وإعانته إياهم عليه.وإن شئت قلت: عطَف {نعمل} بالرفع لفظًا وهو ينوي أنه جواب؛ أي: إن شاء الله ذلك مشيئة إلجاء عملنا لا محالة، فيعطفه لفظًا وهو يريد الجواب على ما مضى.ومن ذلك قراءة حُميد: {يَغْشَى} بفتح الياء والشين، ونصب {الليل} ورفع {النهار}.قال أبو الفتح: اتصال قوله تعالى: {يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ} بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} اتصال الحال بما قبلها، ويكون هناك عائد منها إلى صاحبها وهو الله تعالى؛ أي: يَغشَى الليلَ النهارُ بأمره أو بإذنه، وحذف العائد كما يحذف من خبر المبتدأ في نحو قولهم: السَّمْنُ مَنَوان بدرهم؛ أي: منوان منه بدرهم.ودعانا إلى إضمار هذا العائد أن تتفق القراءتان على معنى واحد؛ ألا ترى إلى قراءة الجماعة: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}، وأن هذه الجملة في موضع الحال؛ أي: استوى على العرش مُغْشِيًا الليل النهار؛ أي: استوى عليه في هذه الحال.فقوله إذن: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} بدل من قوله: {يغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ} للتوكيد، وهو على قراءة الجماعة: {يُغْشِي} أو {يُغَشِّي} حال من الليل؛ أي: يُغَشِّي الليل النهار طالبًا له حثيثًا، وحثيثًا بدل من طالب أو صفة له؛ لأن طالبًا لو كان منطوقًا به حال هناك، والحال عندنا فوصف من حيث كانت في المعنى خبرًا، والأخبار توصف؛ لكن الصفات عندنا لا توصف.وإن شئت يكون {حثيثًا} حالًا من الضمير في يطلبه، وفيه من بعد هذا ما أذكره؛ وذلك أن الفاعل في المعنى من أحد المفعولين في قراءة الجماعة هو الليل؛ لأنه المفعول الأول، كقولك: أعطيت زيدًا عمرًا، فزيد هو الآخذ وعمرو هو المأخوذ، وأغشيت جعفرًا خالدًا، فالغاشي جعفر والمغشيُّ هو خالد، والفاعل في قراءة حميد هو النهار؛ لأنه مرفوع: {يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارُ}، فالفاعلان والمفعولان جميعًا مختلفان على ما ترى.ووجه صحة القراءتين جميعًا والتقاء معنَيَيْهما أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضًا مُزيلٌ له، فكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولًا، ومفعول وإن كان فاعلًا. وعلى أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار؛ لأنه بسفوره وشروقه قد أظهر أثرًا في الاستحثاث من الليل. وبعدُ، فليس النهار إلا ضوء الشمس، والشمس كائنة محدثة، ولا ضوء قبل أن يخلقها لله جل وعز، فالضوء إذن هو الهاجم على الظلمة، ويطلبه حثيثًا، على هذا حال من النهار؛ لأنه هو الأحث منهما.ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون يطلبه حالا من النهار وإن كان مفعولًا، كقولك: ضربتْ هندٌ زيدًا مؤلِمَة له، فقد يكون مؤلمة حالًا لزيد، كما قد يجوز أن يكون حالًا من هند؛ وذلك أن لكل واحد منهما في الحال ضميرًا. ومثله قول الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}، قد يجوز أن يكون {تحمله} حالًا منها، ويجوز أن يكون حالًا منه، وقد يجوز أيضًا أن يكون منهما جميعًا على قوله: ويجوز أيي وأيك فارسُ الأحزاب؛ أي: أينا فارس الأحزاب، فكذلك يكون قوله: يطلبه حثيثًا، حالًا منهما جميعًا على ما مضى؛ لأن لهما جميعًا فيه ضميرًا. ولو كان الآية فأتت به قومها تحمله إليه لجاز أن يكون ذلك حالًا منها، ومنه ومنهم جميعًا؛ لحصول ضمير كل واحد منهم في الجملة التي هي حال، فاعرف ذلك.ولعمري إنك إذا قلت: أغشيتُ زيدًا عمرًا، فإن العرف أن يكون زيد هو الغاشي وعمرو هو المغشيّ، إلا أنه قد يجوز فيه قلب ذلك، لكن مع قيام الدلالة عليه، ألا ترى إلى قوله: أراد: يعطي القصائد حقهن، ثم قدم المفعول الثاني فجعله قبل الأول من حيث كانت القصائد هنا هي الآخذة في المعنى، ونحوه: كسوت ثوبًا زيدًا، ساغ تقديمه لارتفاع الشك فيه، وليس كذلك يُغشي الليل النهار؛ من حيث كانا متساويي الحالين في الغِشْيان، وعلى كل حال فكل واحد منهما غاشٍ لصاحبه.
|